رواية الروح الثالثة
الجزء 4
تأليف محمد أبو النجا
كانت مفاجأة تجمد لها جسد يوسف
وهو يرى على المقعد المجاور له
حقيبة نادية..
تلك الحقيبه التى فقدتها يوماً فى سيارته..
كيف جاءت هنا..!
وما معنى هذا..!!
يلتقط الحقيبه بيده ويتطلع لها لحظات
وخفق قلبه وهو يفتحها..
لقد كانت فارغه..
خاليه تمامًا..
ليطلق عقله هذا السؤال المخيف
هل ناديه حبيبته كانت وهم أم سراب..؟
حقيقه أم كذب..؟
أم هى شبح..!
هل عليه أن ينسى قصتها ..؟
أو أن يبحث عنها..؟
يبحث عن فتاة لا وجود لها..
فتاة ماتت منذ عامين..
فتاة أحبها إلى حد الجنون..
فتاة عاش يحلم ليل نهار بحياة قادمة
سعيدة معها..
صنع معها جنه من العشق
وأنهار من الصدق
كلها إحترقت فى سرعة البرق..
تلاشت..
وعليه أن يواجه مصير قادم معتم ..
مصير مجهول...
****************
بعد أسبوع
تنقلب حياة يوسف كلها رأسً على عقب..
تتبدل وتتغير إلى صورة مختلفه تمامًا
عما كانت عليه...
لم يعد ذلك الطبيب النشط المبتسم
بات طابعه الخمول والأرق والإهمال..
شارد الذهن ومرتبك..
كثير الغياب عن العمل ..
قليل الكلام ..
ذابت إبتسامته ..
ماتت أحلامه...
الجميع لاحظ عليه ذلك التغير الرهيب...
كل ما كان يشغل عقله هو نادية....
ناديه التى اختفت من حياته تاركه
ورائها حمل ثقيل اسمه الحيره...
يتسأل فى كل لحظه عن سرها..
هل هى حقيقة ام خيال..؟
وسرعان ما يعود ويصفع
كل أفكارة ويصرخ داخله فى جنون
وتحدى : بل كانت حقيقه...
لم تكن ناديه وهم...
نعم رآها..
لمسها...
ذاق حبها وأحبته..
وعاد يصرخ فى كبرياء فى نفسه
أنا لست مريضاً او مجنون...
نعم..
ناديه لم تكن وهمًا..
فجأة
قطع حالة الفكر وصمته داخل مكتبة
ذلك الصوت الهادىء الحالم يقول
(صباح الخير)
لم تكن سوى الدكتوره ولاء...
ولاء حسين ..
التى تعمل معه فى نفس المستشفى
فتاة فى غاية الجمال والرقة...
بيضاء البشرة..
تبتسم بشكل يحطم القلوب ..
تنظر له بتلك الأعين الخضراء الواسعه
لتزداد جمالاً وأنوثه طاغيه...
يرفع يوسف رأسه ليجدها أمام مكتبة
دون أن يشعر بقدومها...
عادت تكمل حديثها : دكتور يوسف..
إنته مش سامعنى..؟
يعتدل يوسف فى إرتباك : دكتوره ولاء..!
ولاء : قولت صباح الخير مرتين..
وندهت عليك تلات مرات...
وخبطت على باب أوضك مرتين..
وبقالى دقيقه واقفه قدام مكتبك..!
مالك..!
كل ده مش سامعنى..!
يوسف فى دهشة : معقول..!
أنا فعلاً مسمعتكيش..!
ولا حسيت بيكى...
ترمقه ولاء بنظرات تعجب :
مالك يا دكتور يوسف..!
إنته تعبان..!
شكلك متغير ومرهق..!
ملامحك حاسها مش طبعيه...
زى ما يكون مابتنمش..
يفرك يوسف بأصابعه عينه وهو يتثاوب :
فعلاً أنا تقريبًا بقالى يومين مبنمش..
ولاء : واضح على ملامحك كل الناس هنا
ملاحظه كده...
يوسف بصوت حازم : أنا كويس يا دكتوره
الحمد لله مفيش أى حاجه...
عادت ترمقه بنظرات استمرت للحظات
وكأنها تعاتبه...وتلومه...
لقد كان يعلم منذ زمن
حقيقة مشاعرها تجاهه..
يعلم أنها تحبه..
رغم صمتها...
يدرك هذا الحب ويفهمه..
ويتجاهله..ويرفضه..
وكثيرًا ما كان يلوم نفسه عن تلك
الحماقه التى يرتكبها...
كيف يمكن لقلبه الملعون أن يرفض
حب تلك الفتاة الجميله الرقيقه
المثقفه التى يحلم بلقائها أى رجل..!
ربما كان جزاء قلبه هذا العقاب الأليم..
أن يهوى فتاة لا وجود لها..
وكان ما يواسيه أننا لا نملك
هذا القلب الذى فى صدورنا...
لا نستطيع إجباره على الإختيار..
يقاطع هذا الشرود الثقيل صوتها الحنون
تقول فى تعجب : لا...مش معقول..!
عماله بتكلم وشكلك مش مركز معايا
خالص ولا سامعنى...!
بقولك إيه قوم بينا أوصلك بعربيتى
تروح تنام وترتاح...
يحاول يوسف خلق ابتسامة
لا وجود لها وهو يقول :
أشكرك دكتورة ولاء
صدقينى أنا بخير...
ولاء فى غضب : متكدبش على
نفسك يا يوسف إنته لو فضلت
على حالتك دى ممكن يحصل لك حاجه..
أزاى هتركز حتى فى شغلك..!
لو عندك مشكله قولى جايز اساعدك
ومفيش حاجه ملهاش حل...
مطَ يوسف شفتيه : إنتى مكبره
الموضوع ليه..!
قولت لك أكتر من مره أنا كويس
وعاد يرفع نبرات صوته :
عماله تعيدى فى الكلام كتير ليه..؟
تتسع عين الدكتوره ولا فى حزن
وهى تدور بجسدها : بعد إذنك..
وعادت تغادر بخطوات مسرعه
ليعتدل واقفاً هو يوبخ نفسه ويعاتبها
أى حماقه تلك الى اقترفتها...
ويتحرك مسرعًا ليلحق بها
كانت قد وصلت حجرتها وجلست على
مكتبها والدموع تراقص فى عينيها..
ليقترب فى إرتباك : دكتوره ولاء
معلش سامحينى فى أسلوبى
ومتزعليش منى..
أنا أظاهر قلة النوم فعلًا مخليانى عصبى..
وكنت حاد معاكى فى الكلام..
تنظر له ولاء وكأنها ألقت ألف كلمه
على مسامعه دون ان تحرك شفتيها
ولكنه أقسم أنه سمعها...
لقد أخبرته بحبها...بعشقها...
بخوفها عليه...
لا تريد رؤيته بهذا الشكل..
إنها تتعذب من أجل عذابه..
تتألم من أجله..
تمنت لو صرخت بأعلى صوت وأخبرت
الدنيا بحبها..
عادت تتنهد وهى تحاول التحكم فى
مشاعرها : مفيش داعى للإعتذا يادكتور
أنا فعلاً كنت متطفله شويه عليك...
وفعلًا مش من حقى أقتحم خصوصيات غيرى...
يقترب يوسف وهو يلقى بجسده على المقعد
القريب وقد أتضح عليه التعب أكثر والإعياء
: أنا مقتنع بكل كلامك من البدايه يا دكتوره
ومش هكدب عبى نفسي أو أجادل..
إنتى عندك حق...
أنا مش هنفع أكمل أو أشتغل فى حالتى دى..
أزاى هوصف للناس الدوا وأنا مش لاقيه..
عقدت ولاء حاجبه فى دهشه :
يعنى إيه..!
يوسف : أنا فعلاً محتاج أبعد...
محتاج أجازه..
أعيد فيها تكوين نفستي ..
كأنما أنشق صدرها نصفين مع كلماته
فهى لا تقوى على تحمل فراقه أو بعده
كيف يمكنها أن تتحمل غيابه...!
ووهى تعلم أنه متعب
أو يواجه أزمه تجهلها..
كيف تتركه يصارع كل تلك الأوجاع
انه فى النهايه حبيبها..
حتى وإن كان يرفض تلك الحقيقه ويتجاهلها..
لا يمكنها الوقوف هكذا
مكتوفة الأيدى...
وعاد يطرأ على عقله فجأة تلك
الفكره المرعب
ماذا لو كان خلف كل هذا المرار
الذى يعيشه فتاة أخرى...!
كاد قلبها أن يتمزق فقط من التخيل...
سيكون الموت لديها أهون من هذا...
يقاطع تفكيرها الثقيل هذه المره صوت
(ممكن توصلينى)
لم تصدق نفسها وهى تللمم إبتسامتها
الذائبه وتقول : دقيقه وأكون معاك...
يعتدل يوسف مغادرًا هستناكى تحت..
أومأت برأسها وهى تنزع رداءها الأبيض
وتفتح حقيبته وتسرع بخطف المرآه
تضع فوق شفتيها أحمر شفاه
وتداعب بأصابعها خصلات شعرها...
وأطلقت من فواهة عطرها الجذاب
فوق شعرها وملابسها
وانطلقت تسبق الريح لحبيبها..
الذى جلس إلى جوارها داخل سيارتها
وأنطلقت وهى تحلم أن تأخذه وتفر هاربه
تأخذه إلى أبعد الحدود..
تأخذه وتعيش معه كل ما تبقى من عمرها..
تمنت لو أحتضنته وطلبت أن
ينسي كل هذا الحزن الذى يسكنه...
تمنت لو يبادلها تلك المشاعر..
لم تعلم أن عقله وقلبه لم يكن معها
لم يلاحظ كل هذا الحب والإهتمام
كان هناك مع فتاة غيرها...
مع نادية...
يعيش الذكريات ما بين صورتها وصوتها..
تشعر برغبه عارمه فى البكاء من أجله
وهى ترى تلك الدمعه التى تتراقص فى عينه
تمنت لو مسحتها بكف يديها...
تمنت لو سألت تلك الدمعه عن سرها..
عن إسم صاحبتها..
عن التى نزفت من أجلها..
لتضرب مكابح سيارتها فجأة
ليدور برأسه فى دهشة : وقفتى ليه...؟
تشير بيديها : إيه رأيك نشرب كوبايتين
ليمون هنا..!
منها ترتاح شويه..
وتهدى أعصابك...
يتنهد : هكون ضيف تقيل صدقينى عليكى
تبتسم : ياسيدى أنا راضيه..
يالله بينا...
بعد دقائق
كان يجلسان سوياً
رغم أنها حاولت إخفاء تلك الفرحه
إلا أنها كانت واضح..
تفضح عينيها ما بداخلها..
لقد رأى ذلك...
عادت تلامس كوب العصير الذى امامها
بأصابعها وهى تتنهد : يوسف
أنا مضايقه أوى عشانك...
ياريتك تتكلم وتقولى مالك..
يمكن ساعتها يخف الحمل اللى جواك..
إنته اللى تعبك أكتر إنك عمال تفكر كتير
ومبتحكيش مع حد...
ياريت تثق فيه وتفتح لى قلبك..
جايز أساعدك...
يبتسم يوسف ساخرًا : مشكلتى ملهاش حل..
تتراجع فى دهشه للدرجه دى...
هى مشكله ماديه...؟
ينفى برأسه : لا..لا...
عادت بخبث تحاول جذبه ليعترف :
معقول تكون مشكله فى المستشفى..؟
فى حد ضايقك...
يتنهد يوسف : لاء طبعاً مكنتش هكون
فى الحاله دى..
عادت تتمنى فى أعماقها أن يكون
سبب هذا الألم شىء غير الذى تتخيله
أن تكون فتاة هى التى وراء كل هذا ..
وينتابه شعور مجهول فى صدره ليصنع
تلك الرغبه فى التحدث..
ربما كانت ولاء على حق..
وأن عليه أن يخفف ذلك الحمل من صدره
رغم أنه يعلم بأن مشكلته لا حلها
بدأ يحاول إقناع نفسه بالبوح لها..
بمصارحتها..
ولكن كيف يصارحها وهو يعلم
انها هى الأخرى أيضًا تحبه..!
سيكون ذلك بمثابة الضربة الموجعه
لقلبها...
الجرح الذى سيصنعه ولا يمكن أن يداويه..
ليقاطع تفكيره صوتها التى خرج من بين
شفتيها كالجبل : فى واحده فى حياتك...؟
كان سؤالها صدمه بالنسبه له..
ولا مفر من إجابتها...
وهى تكمل : مشكله عاطفيه صح..؟
أومأ برأسه فى هدوء
لينزع رده قلبها ويمزقه أشلاء..
تحاول بكل كبرياء التماسك ومنع نفسها
من البكاء لتقول : طب قول بقى مالك...!
يوضع سره فى أضعف خلقه..
يالله أحكيلى هيه مين...!
وقابلتها فين وأزاى..!
رغم إحساسه أن كلماته ستوجعها
بدأ بدون تردد إخبارها القصه
دون ان يعلم من أين أكتسب تلك الشجاعه...!
لقد كان يتحدث وكأنه يخرج عذابه ومراره
ويشهدها كيف هى مأساته...
كانت تستمع فى سكون وحروفه كالصفعات
على جبين عشقها..
كالسكين فى أحشاء حلمها...
كلما وصف تلك الفتاة
كانت تتمنى قتلها...
تكرهها دون أن تراها...
فهى سرقة قلب حبيبها....
كلماته تشعل الغيره فى أنفاسها...
فجأة تتغير ملامحها وقصته تدور فى
منعطف جديد حين ذهب لخطبتها...
اتسعت عيناها فى شغف وذهول
حينما انتهى...
هزت رأسها فى صدمه : مش ممكن..!
أنا مش مستوعبه...
ومش أقدره أركز..
يبتسم يوسف ساخرًا : انا كنت عارف
من البدايه إن مشكلتى ملهاش حل عندك..
بس مش عارف ليه قولت لك..
تنفى ولاء بيديها : لكل مشكله حل...
مهما كانت حت..
يقاطعه : إلا مشكلتى...
بقولك ماتت من سنتين..!
ولاء : طب ممكن نفكر بهدوء شويه
ونرتب الأوراق
يوسف فى تعجب : عايزه تقولى إيه..؟
ولاء : اولاً مفكرتش ليه إن امها تكون
بتكدب عليك..؟
ونادية تكون عايشه ومامتتش..؟
يوسف : أنا شوفت شهادة الوفاة بنفسي..
ولاء : وشوفت كمان نادية وكلمتها..
يعنى ممكن تكون الشهادة مزيفه
لكن ناديه لاء..
تراجع يوسف من حديثها الذى بدأ يميل
له ويحبذه وهى تكمل :
جايز يكون فى سر ورا شهادة الوفاة دى
جايز جدًا تكون مزوره...
يوسف : بس ليه هيعملوا كده..؟
ولاء : محدش عارف السبب..!
يوسف : طب أختفت ليه بعد اليوم ده..
وملهاش أثر..!
وتليفونها بقى مقفول..!
ولاء : إنته حسبتها غلط..
يوسف فى صدمه : مش
فاهم برضه تقصدى إيه...!
ولا : يعنى مفكرتش تبقى مين نادية..؟
وقصتها إيه...!
وماتت أزاى بالظبط وأمته..؟
جايز تكتشف حاجه فى الماضى بتاعها
جايز تعرف سر يحل لك كل الألغاز دى..
يوسف فى ذهول يقول : غريبه كلامك
فعلاً منطقى وصح...
تبتسم : مش قولت لك يوضع سره فى
أضعف خلقه...
المفروض بقى نرتب الأوراق صح..
ونبحث فى الطريق المظبوط..
يوسف فى حيره يردد : نرتب...ونبحث...
تبتسم ولاء : هو أنته فاكر إنى هسيبك
لوحد...؟
أنا هفضل جمبك وهساعدك..
لحد ما تعرف مين هيه نادية...؟
كانت كلماتها صادمه بالنسبه له
وهى تكمل : أولاً نعرف حكايتها من
جيرانها..أصحابها..
زمايلها فى كلية فنون جميلة..
إدارة الكلية نفسها...
نجمع أكبر قدر من المعلومات عنها
يوسف : تفتكرى ده ممكن يكون سهل..؟
ولاء : متقلقش أنا هجيب لك قصتها كلها
وهعرف عنها كل حاجه..
يوسف فى ذهول : أزاى..؟
تبتسم ولاء : دى شغلتى أنا بقى...
يبتسم يوسف : إنتى بجد دكتوره..؟
ولاء : قصدك إيه..؟
يوسف : أنا شايف ضابط مباحث
شاطر وبيحقق فى قضيه صعبه..
تتنهد ولاء : أنا عشانك اعمل أى حاجه
كان ردها مفاجىء له
ويعبر عن مدى عشقها وغرامها وخوفها
من أجله...
وتسأل فى نفسه : ليه بتعمل كل ده...؟
وهى بتحبه...!
ولم يدر يوسف إنها كانت فى تلك اللحظه
تطلق هذا السؤال بين جدران عقلها
لماذا تساعد حبيبها فى البحث عن غيرها..؟
************
بعد يومين
من الواضح أن اللقاء الذى جمع
بينه بين ولاء كان له عامل السحر معه ..
فقد دب فى قلبه شعاع من الأمل...
فعادت الحياة من جديد له ...
يقضى معظم الوقت فى النوم...
أحلام غريبه تداهمه...وتراوده...
يرى فيها ناديه..
لكن يستيقظ وقد نساها...
حبيس حجرته..
لم يعد يدرك الليل من النهار..
من ظلاماتها
قليل الطعام..
يستيقظ فجأة على رنين هاتفه
فى هذا اليوم...
وصوت ولاء يتحدث : إيه يابنى
عماله برن عليك من مدة...؟
يوسف : معلش كنت نايم يا ولاء
إيه الأخبار..؟
فى جديد..؟
ولاء مش هتصدق..
مفاجأة مكنتش تتخيلها..
يوسف : بخصوص نادية...؟
ولاء : طبعاً بخصوص ناديه...
يوسف : مفاجأة إيه...؟
وأخذت ولاء تخبره بآخر شىء
ممكن أن يتوقعه..
أو يتخيله...
مفاجأة لا حدود لها...
تعليقات
إرسال تعليق