رواية
سكان القمر
الجزء 40
تأليف الكاتب محمد أبو النجا
فى مشهد مؤلم إلى أبعد الحدود
تدخل محاسن بقلب يرتجف يضرب ضلوعها
بشده أثر خفقانه ...
تدلف إلى حجرة ابنتها شاديه ...
التى تحتضر وتلفظ أنفاسها الأخيرة ...
تتذكر محاسن ابنتها الصغيره التى تصنع
لها الضفائر فى شعرها ..
وبين يديها عروستها ...
فجأة تذهب إلى زمن آخر ..
ترى ابنتها متعبه مريضه ..
عجوز تحتضر ..
شىء لا يمكن لعقل تصديقه ...
أو إستيعابه ..
حتى جاءت اللحظه التى تخشاها ..
وهى ترى ابنتها شاديه ممده الجسد ..
ومغطاه دون وجهها فوق فراشها ..
ملامحها شاحبه ..
عيناها مغلقه ..
أنفاسها سريعه ...
تجعل صدرها يعلو ويهبط
بشكل ملحوظ ..
تقع عين محاسن على وجه صغيرتها ..
لقد تغيرت كثيرا ...
تقترب وعيناه تتساقط بالدموع ..
لم تتمالك نفسها وهى تنهار تنثنى
على ركبتيها
أسفل أقدام ابنتها ...
مشهد جعل فريد ابنها يتراجع وهو يهمس
إلى سليم فى تعجب :
فى إيه ياسليم ..!!
الست دى اول مره تشوف امى ..!
ومنهاره اوى بالشكل ده ليه ..!
سليم فى ارتباك يحاول الهروب
من السؤال الصعب ليقول بعفويه :
اصعب لحظات ممكن تقابلها فى حياتك هيه
لحظة موت انسان عزيز قدامك ..
وهيه إحساسها مرهف .
والموقف صعب .
وبعدين مين قالك أنها متعرفش والدتك
..؟
هيه تعرفها كويس .
فريد فى حيره :
لو كانت أمى تقدر تتكلم دلوقت
كنت سألتها ..
كنت حاولت اعرف مين الست دى ...!
لكن أديك شايف حالتها ...
ثوانى وهتهدى ومش ه..
قطع جملته وهو يرى مشهد أكثر دهشه
ومحاسن على ركبتيها تمسك بيد ابنتها
شاديه وتضمها وتقبلها ..
تقبلها بكل حب وهى تبكى ..
تبكى يإنهيار ...
بشكل جعل الجميع في صدمه ..
حتى مصطفى نفسه الذى كان يتابع
المشهد فى صمت وذهول ..
ومع هذا البكاء تبدأ شاديه فى فتح
عيناها ..
لترى اول شىء أمامها هو وجه أمها محاسن
..
تتسع عيناها فى ذهول تام ..
وتتبدل ملامحها فى جزء من الثانيه
إلى ملامح تكسوها الصدمه والذهول ..
لتصرخ فى هلع شديد :
أمى ...
يتراجع الجميع مع صوت شاديه ..
يحاول فريد أن يتحرك نحو فراش أمها
لكن كانت يد سليم تمنعه وهو يهمس فى
هدوء له وهو يضع سبابته اليسرى على
شفتيه : هششش ..
ليعود فريد يتابع فى صمت
والجميع مثله يسيطر عليهم السكون ..
والترقب ...
تتراقص عين شاديه من هول ما تراه
لتقول بصوت حزين :
هو أنا مت ..!!
مت يا امى ..!
والاه جايه تاخدينى ...؟
تنفى محاسن بدموعها دون أن تتفوه
بكلمه ..
وهى تقبل يد ابنتها ..
التى تهمس وهى تنادى ولدها فريد
: فريد مش هتصدق ...
أنا شايفه امى ..
شايفه جدتك محاسن ..
لم يتمالك فريد نفسه وهو يقترب
وقلبه يعتصره الألم ينفى برأسه
: دى مش جدتى ...
مش جدتى محاسن يا أمى ..
دى واحده قريبتنا ...
بس تشبه جدتى ..
تشبهها أوى ..
شاديه فى ذهول :
يعنى انته شايفها ..!
شايفها زى ما انا شايفاها ...!
يعنى مش بيتهيألى ..!
يعنى مش بخرف ..؟
هز فريد رأسها :
أيوه يا امى ..
كلنا شايفنها ...
تنفى شاديه :
يبقى دى أمى ...
أمى ..
مش ممكن أغلط فيها ...
صح ..
اتكلمى ...
سمعينى صوتك ...
لم يتمالك سليم دموعه أمام هذا المشهد
ومحاسن لا تدر ماذا تفعل ..
او تستطع أن تتكلم ..
لتعود شاديه بكل إصرار تتوسل لها
: ارجوكى اتكلمى ...
عايزه اسمع صوتك ..
انتى امى مش كده ..؟
فريد فى لهفه : امى ..
الإنفعال مش كويس
عليكى ...
ارجوكى أهدى شويه ..
لكن شاديه لم تعيره اى إهتمام
ظلت تتوسل إلى محاسن ...
أن تجيبها ..
أن تسمع صوتها ...
لكن محاسن لم تستطع الكلام ..
تعتدل واقفه ويداها ما تزال متعلقه
بإبنتها ..
التى بدأت دموعها تلمع وتتراقص ..
وهى ما تزال ترجوها فى مشهد مؤلم
: ارجوكى رد عليه ..
انتى امى صح ..؟
انا متأكده ..
ريحينى قبل ما أموت ...
تفجر تلك الكلمه قلب محاسن وتمزقه ....
وهى لا تعلم بأى شىء تجيب ..
او ماذا عليها أن تفعل ..!
وعندما همت بالرحيل كانت يد شاديه
تمسكها وتمنعها من المغادره ...
وقد بدأت فى البكاء وهى تنفى برأسها
: أنا من سنين طويله مشفتكيش ...
لكن كل يوم ملامحك فى عنيه ..
منستهاش ..
صوتك ديما بسمعه ...
ضحكتك ..
حتى لما كنت بتزعلى منى وتعلى صوتك
وتزعقيلى ...
فاكره عصبيتك ..
وحنيتك ..
وخوفك عليه ...
فاكره كنتى بتحبينى قد ايه ..
والحب ده من بعدك معشتوش ...
ولا شوفته ..
فاكره لما كنت بخاف وتاخدينى فى حضنك
وتضمينى ...
وتقولى متخفيش ..مح .
تقاطعها محاسن وهى تبكى وتكمل جملتها
التى كانت تنوى قولها
: محدش يقدر يقرب لك وانتى فى حضنى ..
تتسع عين شاديه والجميع ..
لقد كانت كلمات محاسن بالنسبه لهم
صاعقه ..
لتصرخ شاديه من هول المفاجأة
: أيوه فعلاً ..
ده اللى كنتى بتقوليه ...
لتلقى محاسن بجسدها تحتضنها ..
وتفقد السيطره على مشاعرها ...
والاثنان يدخلان فى حاله من
البكاء الشديد
وشاديه تهمس :
انا منستش صوتك ..
مش ممكن ..
هو انا بحلم ..!
صح ..؟
انتى امى ..؟
امى محاسن ..؟
ارجوكى جوبينى ...؟
فهمينى ...
فريد فى صدمه لا حدود لها
: إيه اللى بتقوليه ده يا أمى ..؟
جدتى إيه بس ..!
جدتى ماتت من اكتر من خمسين سنه ..
ولو كانت عايشه هتكون قربت على التسعين
سنه ...
ودى زى ما انتى شايفه ...
ست شابه ...
وصغيره فى السن ...
يجوز الشبه هو اللى ..
تقاطعه محاسن وهى تدور برأسها نحوه
فجأة بصوت صارم حاد تقول :
أنا جدتك يافريد ..
يتراجع فريد فى صدمه لا حدود لها
وتتسع عيناه بشكل مخيف ..
وهو ينفى برأسه
: جدتى ...!
:يعنى إيه جدتى ....!
جدتى ازاى ...!
مش ممكن ..!
مستحيل ...!
هز سليم رأسه :
هي دى الحقيقه يا فريد ...
يصرخ فريد فى جنون :
ايه التخاريف دى يا سليم ..!
تعتدل محاسن وهى تقف بالقرب منه
تشير نحو جبهتها :
بص فى الصور اللى عندكم ..
هتلاقى نفس الجرح ده ..
ينفى فريد من جديد برأسه :
ده برضه مش دليل ..
لا شكلك ولا صوتك ..
ولا الجرح اللى بتقولى عليه دليل
ولا حتى كلام سليم ..
العقل والمنطق بيقول مستيحل ..
انتى من رابع المستحيل تكونى جدتى ..
يتنهد سليم وهو يعقد ساعديه
أمام صدره :
يا فريد جدتك اتعرضت لحادث غريب
من خمسين سنه ...
الحادث نقلها بالزمن لوقتنا الحاضر ..
عقد فريد حاجباه وابتلع ريقه
: مش ممكن ..!
حادث إيه اللى ينقلها من زمن لزمن ..
مط سليم شفتيه لاء
دى قصة طويله ...
فريد : مهما كانت قصتك ...
اللى بتقول عليه ده
حكايه ممكن تقلب العالم كله ..
وأنا لا مصدق ولا مقتنع ..
تعتدل شاديه من فراشها بصعوبه
تصرخ :
لكن أنا مصدقه ..
مصدقه أنها امى ..
ملامحها ..
صوتها ..
حضنها ..
معقول انا شايفاكى ..!
معقول لسه عايشه ...!
ولسه فى شبابك ...!
فجأة صوت يضرب المسامع فى غضب
( إيه التخاريف اللى عمالين تقولها دى
....؟ )
ألتفت الجميع نحو مصطفى الذى تحدث
للمره الاولى منذ أن جاء
ليقول فريد : يعنى انته متفق معايا
يا مصطفى ..؟
هز مصطفى رأسه : أكيد
متفق معاك طبعاً ..
دى واحده نصابه ..
جايه تتدعى إنها جدتى ..
وكمان حامل ..!
كل ده عشان الميراث ..
لعبه حقيره ..
تقترب منه محاسن فى غضب
تصرخ بصوت قوى منفعل :
على قد ما بحبك وبتكرهنى لكن
ده ما يمنعش إن لغضبى حدود ..
ينظر لها مصطفى فى تعجب
: هتعملى إيه يعنى ..!
ترفع محاسن يديها عاليه أمام عينيه :
واضح إن جدك
عبد البديع محكاش لك على عصبيتى ...
وإن ممكن اضربك ...
حتى لو كنت راجل قدامى ..
عشان تتأدب فى كلامك معايا ..
او الكلام عنى ...
أنا بطنى دى شالت فى يوم من الايام
ابوك شريف ..
أنا جدتك ..
أنا حب جدك الوحيد واللى متحوزش
بعدها ...
مفيش حد كان بيحب حد قد ما كنت
بحب جدك وبحترمه وبيحبنى ....
لكن كونك حفيدى ومتحترمنيش
هيكون ردى معاك من هنا ورايح مختلف ...
يتراجع مصطفى فى صدمه مع لهجتها
الحاده العنيفه التى لم تتحدث بها من
قبل
صوتها جعل مصطفى يرتبك ..
بل يرتعد ..
ويرتجف ..
دون أن يفهم لماذا أهتز أمامها ..!
وشعر بالضعف بهذا الشكل ..
وعادت تدور إلى فريد تقول :
انده لى الحاجه حميده من بره ..
وعادت تصرخ فى غضب :
سمعتنى صح ..!
ليفر فريد مع صوتها فى خوف
لتبتسم شاديه بوجه شاحب
: ياه ..
ياه يا أمى وحشنى صوتك ..
اوى ..
وحشتنى عصبيتك ..
منستهاش ..
مش متخيله اللى حصل ..
مش قادره استوعب وجودك جمبى
دلوقت ...
مش قادره افهم ده حصل ازاى ...
ومعنديش طاقه اسمع أو افهم ..
المهم انك معايا ...
نفسي اقوم وأخرج معاكى ..
تبتسم محاسن فى حب وهى
تعود تقترب منها تحتضنها من جديد ..
تقول فى حزن شديد :
ياريتنى مكانك يا شاديه ...
ياريت التعب ده كله فيه انا ..
ياريتنى اموت وانتى تعيشى ...
ومع نهاية حروف كلماتها
كانت الحاجه حميده تدخل يصحبط
منتصر زوج شاديه
الذى همس فى تعجب :
خير يا جماعه فى إيه ..!
حصل حاجه ..!
أنا سامع صوت زعيق ودوشه ..!
وعاد ينتبه إلى زوجته شاديه
التى تجلس على فراشها ..
ليتراجع فى ذهول يقول
: شاديه ...!
أنتى كويسه ..!
انتى بخير ..!
اتحركت ليه ...!!
حميده بصوت عالى كالعاده :
مالك يا شاديه يا حبيبتي ..؟
ربنا يشفيكى ..
حد ياخد إديه ويقعدنى جنبها
يا ولاد ..
عايزه اشوفها ...
واطمن عليها ...
عادت محاسن تتحرك وتمسك يدها
تقول :
تعالى يا حميده ...
اصيله والله ...
فيكى الخير إنك بتسألى على شاديه
وانتى فى السن والعمر ده ...
تنظر لها حميده فى صدمه
تهتف : الله ..!!
مش انتى اللى شوفتك بره من شويه ...!!
هزت محاسن رأسها : أيوه..
الحاجه حميده فى تعجب شديد :
انتى شبه محاسن ...
شبه محاسن خالص ...
سبحان الله ...
تبتسم محاسن :
طب وصوتها ...
تتراجع الحاجه حميده تقول
: صوتها ...!!
تصدقى صوتها والله برضه يشبه لها ..
غريبه ....!
سبحان الله ...
تعود محاسن تميل نحوها :
انتى عايزه اللى يقرصك فى حواجبك ..
تعقد حميده حاجبيها فى تعجب وذهول
تردد تلك الجمله التى قالتها محاسن لها
:
عايزه حد يقرصنى فى حواجبى ...
الجمله دى
كانت ديما تقولها لى محاسن ..
الله يرحمها ..
كانت ديما تقولها لى وأحنا صغرين أوى
...!
غريبه ..!
محدش يعرف الجمله دى غيرنا ...!
انتى عرفتيها ازاى ...!
محاسن ضاحكه :
ّ طب وإيه رأيك فى العريس
اللى لما اتقدملك زمان وانتى عمرك
عشرين سنه ..
وهربتى يومها من شباك البيت
وسافرتى لخالك عاشور
فى دمياط ...
ومكنش معاكى فلوس ..
وفضلوا شهر يدوره عليكى ...
كل ده عشان كنتى عايزه
تتجوزى الأسطى حسين النجار ..
تتراجع حميده فى ذهول رهيب
لا حدود له تصرخ :
يالهوى ...
يادى المصيبه ...
انتى تعرفى كل الحكايات
والحاجات دى منين
ياست انتى ..!
الفضايح دى محدش يعرفها ..
غير انا ومحاسن ..
تبتسم محاسن وهى تشير نحو
صدرها :خلاص
يبقى انا محاسن ...
تتراجع حميده للوراء وهى تكاد تسقط
على ظهرها ..
ليمد سليم بيده بسرعه يحاول
إمساكها ...
ويحضرون لها مقعداً ..
لتجلس وهى تنفى برأسها
: مش ممكن ...!
محاسن مين ..!
محاسن ماتت من سنين ...!
اكيد حد هو اللى قالك على الأسرار
والقصص دى كلها ...
تنفى محاسن : مفيش حد قالى
أى حاجه ...
انتى بنفسك قولتى
محدش يعرفها غيرك انتى وهيه ..
تحبى اقولك على اكتر من كده ..
وعادت تميل محاسن نحوها قائله
: بس هقولك فى ودانك عشان محدش
يعرف السر ده ..
وبدأت تستمع حميده لها وهى تعطيها
أذنيها ..
وعيناها تتسع وتصرخ فى صدمه
وذهول شديد :
محاسن ..!
محاسن ازاى ..!
انتى رجعتى بعد ما موتى ..!
انتى ازاى صغيره ومكبرتيش ...
امال كنتى فين السنين الطويله دى كلها
..
اعوذ بالله من الشيطان الرجيم ...
ينفجر مصطفى فى غضب وهو يرفع
سبابته فى وجوههم يصرخ فى عنف :
كفايه بقى تمثيل ولعب بعقول الناس ..
دى لا جدتى ولا ...
فجأة يقتحم المكان صوت يقول فى هدوء
: لاء .. يا مصطفى ...
دى محاسن ..
محاسن جدتكم ..
وعندى الدليل ..
الدليل القاطع على كلامى ..
يدور الجميع إلى مصدر الصوت ..
وكانت مفاجأة للجميع ...
مفاجأة بما تحمل الكلمه من معنى ..
حول هذا الزائر ..
الذى جاء فجأة يحمل بين يده الدليل ..
دليل لا يمكن توقعه ...
تعليقات
إرسال تعليق